جمعنى بها لقاء كان له تأثير كبير على مجرى حياتينا، ورغم أنه قد مضى على هذا اللقاء عدة أعوام إلا أنه لايفارق وجداني، فيكفي لشرفه أنه كان في أفضل ليالى شهر رمضان في مكة أطهر بقاع الأرض، وكنت في طريقي للخروج من المسجد الحرام وإذا بي أجدها تستند عليَّ بعد أن كادت أن تنزلق قدماها وأخذت بيديها أسير معها إلى مكان إقامتها وقد ناولتها كوب بارد من ماء زمزم المبارك، ونظرت إليها فإذا الدموع في عينيها تختلط بنظرة حزن عميق، ولكنها لا تخلو من رضا وإطمئنان عجيب.
وتعارفنا.. كانت امرأة مسنة تجاوزت الستين من عمرها وجاءت بصحبة آمنة لأداء أول عمرة في حياتها.
وأخذت تسرد لي كيف كانت حياتها وكيف أنها تزوجت منذ زمن بعيد ورزقت بطفل وحيد، وتركها زوجها وغادر البلاد، ولا تدري إلى الآن لماذا وأين، وما آل إليه حاله، إلا أنها ظلت أسيرة له، وسرعان ما إنعزلت عن مجتمعها خاصة بعد وفاة والديها تاركين لها ثروة لا بأس بها، وجعلت كل همها ورسالتها العكوف على تربية ولدها.
وحكت لي كيف كانت اليالى والأيام تمر عليها وليس هناك من يدق بابها اللهم إلا خالة لها تعيش في بلدة بعيدة تأتى لزيارتها والسؤال عنها حينا بعد حين.
وكبر الابن وبارك الله لها فيه فقد كان ذكيا متفوقا، وبمجرد أن أنهى دراسته سارعت بتزويجه، كان مرحبا بتلك الفكرة ليملأ عليها حياتها، وإختارت فتاة صالحة من بيت طيب، وكانت نعمت الزوجة والإبنة، وإبتسمت لهم الحياة وملأ الله البيت بطفلين كانا قرة عين للجميع.
وتبدل الحال مع تقلب الليل والنهار، وقدر الله سبحانه أن يصاب هذا الابن بمرض عضال ووافته المنية سريعًا.
وإنهمرت دموعها وهي تحكي لي، وكأن هذا الحادث حاضرا أمامها، وأخذت تحاول أن تصف لي الحزن الذي كاد أن يفتك بها، وكيف أنها لازمت الفراش لفترة طويلة، وأخذت تدعو لزوجة ابنها التي أولتها الرعاية، وقربت الحفيدين من حضنها ليسكن بهما بعض الأنين حتى مرت تلك الفترة العصيبة وتعافت وألحت على زوجة ابنها أن تستمر معيشتهم معا.
ومضت الأيام والشهور وإذا بأهل الزوجة يحيطونها بإحياء فكرة الزواج مرة ثانية، فهي مازلت صغيرة في مقتبل العمر، وليس هناك من مبرر لتحرم نفسها من الإرتباط ومواصلة الحياة الأسرية، وكان لأم الزوجة دور كبير في إقناع إبنتها بالزواج خاصة حين تقدم لها شخص يشهد له الجميع بالخلق الحسن، وكان قد سبق له تجربة الزواج وخرج منها مدركا بكل المقاييس أنه عقيم ويرغب أن يكون نعم الأب لطفليها.
وبدأت محدثتي وكأنها على وشك الإنهيار مرة أخرى حين لاح في الأفق أن هذا الزواج من الممكن أن يتم إلا أنها كانت تخشى على زوجة ابنها أن تعانى من الوحدة حين يمضي بها العمر فرضخت للأمر خاصة مع وعود زوجة ابنها أن تستمر على الإتصال الدائم بها، وأنها لن تبتعد عنها أو تبعد أحفادها.
وقدر الله سبحانه إتمام الزواج وإنتقلت الزوجة بطفليها إلى بيت الزوج الجديد والذي كان في منطقة بعيدة عن مكان إقامتها الأول.
وشيئا فشيئا عادت الوحدة للعجوز، وفقدت الأنس وضعفت صحتها، ووهن العظم منها، ولم تعد قادرة على الخروج من المنزل، وزاد الحزن من ثقل العمر.
وتنزلت عليها رحمة الله فأحاطت بها فكرة الذهاب لبيت الله الحرام الذي لم تذهب إليه أبدا، وأخذت تستجمع ما بقي لها من همة وعزيمة وأعدت العدة، ومنَّ الله عليها بتلبية نداء العمرة.
وأخذت تنظر إلى الكعبة المشرفة وتسجد والدموع تملأ عينيها، وإتفقنا على التواصل عندما نعود لديار الوطن وها نحن منذ ذلك الحين نتنقل بين أعمال الخير التي نقدر عليها مع مجموعة أخرى من النساء، وربط بيننا الحب في الله، وزاد التزاور بيننا وكنا نحرص على أداء العمرات.
بل إن الله قد منَّ عليها بأداء فريضة الحج، ولم تعد تتسمع ليطرق بابها أشخاص، فقد كانت أعمال الخير تدق على بابها تنعش حياتها وتسأل الله الإخلاص فيها لتجدها تؤنس وحشة قبرها.
الكاتب: تهاني الشروني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.